“ثقافة على المقاس”.. كيف تحوّلت وزارة بنسعيد إلى ورشة خلفية لصفقات شركة محظوظة؟

بنسعيد…في مغرب ما بعد الدستور الجديد، حين بشّرونا بالشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، يظهر أن بعض الحقائب الوزارية تحوّلت إلى ما يشبه “وكالة خاصة” لتفصيل الصفقات وتوزيع الغنائم، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالثقافة التي أصبحت تُدبّر بأدوات السوق لا بأخلاق الخدمة العمومية.

الشركة المحظوظة التي لا تغيب عن المشهد

منذ سنوات، ظهرت في المشهد الثقافي شركة حملت اسمًا قد لا يعني شيئًا لعامة الناس، لكنها بالنسبة لدوائر القرار صارت أقرب إلى “الذراع اللوجستي” الرسمي للوزارة. هذه الشركة تأسست سنة 2003، ولم تكن سوى مقاولة متخصصة في التواصل، لكن سرعان ما تحوّلت إلى مقاول رسمي للثقافة، تنظم المعارض الكبرى وتفوز بالعقود المليارية، بينما المنافسة تموت واقفة.

من المعرض الدولي للنشر والكتاب إلى معرض الطفل والشباب، ومن الندوات الوزارية إلى التظاهرات الثقافية، لا صوت يعلو فوق صوت الشركة المحظوظة. والغريب أن الوزير نفسه، السيد المهدي بنسعيد، تربطه بها تقاطعات قديمة من أيام الطموح الإعلامي والشبكات السياسية، بل ويبدو أن العلاقة بين الطرفين تسير في خط مستقيم لا تعرقله لا المساطر القانونية ولا أخلاقيات المرفق العام.

هل هذه وزارة أم مقاولة إعلامية بموازنة ضخمة؟

حين يتولّى وزير من حزب الأصالة والمعاصرة، معروف بتقاطعاته مع عالم الشركات والعلاقات العامة، حقيبةً بحجم الثقافة، تصبح الحدود بين المال العام والمصالح الخاصة أكثر هشاشة. والمؤلم أن نفس الشركة التي ظفرت بتنظيم مؤتمر الحزب في الجديدة سنة 2020، بمبلغ فلكي يقترب من مليار وربع، هي نفسها التي حصلت في صمت تام على صفقة المؤتمر الخامس للحزب سنة 2024، دون أن يكلّف أحد نفسه عناء تفسير لماذا لا تفوز غيرها؟

هل هي مصادفة؟ هل هي كفاءة نادرة؟ أم أننا إزاء نموذج صارخ لما يُسمّى باقتصاد الريع السياسي، حيث تُكافأ الشركات المقربة من مراكز القرار بعقود جديدة تموّلها خزينة الدولة؟

تضارب المصالح تحت قبعة الوزير

الوزير المهدي بنسعيد، الذي يتحدث عن الرقمنة والجيل الجديد والسياسات الثقافية الحديثة، يبدو أنه نسي أن الشفافية لا تعني فقط إطلاق المنصات الرقمية، بل تعني أيضا الوضوح في منح العقود واحترام المنافسة. فكيف نفسر أن نفس الشركة تربح صفقات حزبية بثلاثة أصفار، ثم تعود لتفوز بصفقات وزارية بتمويل من جيوب دافعي الضرائب؟

أليس هذا هو التماهي بين الدولة والحزب؟ أليس هذا هو التداخل القاتل بين المال والسياسة؟ أم أن شعار “الأحرار والبام” في هذه الحكومة هو: خُذ الصفقة أولًا واسأل عن الشفافية لاحقًا؟

أين البرلمان؟ أين المحاسبة؟

كل هذه الملايير تُضخ في شركة واحدة، بينما البرلمان في غيبوبة، والمفتشية العامة لوزارة المالية تصرخ في فراغ، والمجتمع المدني يُكتفى بإشراكه في الحضور لا القرار. نحن أمام حالة مدرسية تُدرّس في كليات السياسة عن كيف يُمكن لحزب أن يُحول وزارة إلى غرفة تنفيذية لمصالحه، باسم الثقافة وبتمويل عمومي.

ثقافة الريع.. عندما يُصبح المعرض بوابة للتواطؤ

حين تتحول الثقافة من رافعة للتنوير إلى وسيلة للتكريس السياسي، نفقد المعنى ونتحوّل إلى سوق مفتوحة. وهنا يكمن جوهر الفضيحة. أن الوزير بنسعيد، بدلًا من أن يُحارب اقتصاد الريع الذي ينخر القطاع الثقافي، أصبح هو ذاته أحد أبرز المساهمين فيه، من خلال تطبيع غير مفهوم مع احتكار شركة واحدة للفضاءين الحزبي والعمومي.

هل كان بنسعيد سيقبل بهذه الممارسات لو حدثت في عهد وزير آخر؟ أم أن القرب من مراكز القرار يجعل الرقابة تذوب في مجاملات المجالس العليا؟

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى