
صفقات تحت المجهر.. المالية تفتح ملفات “سندات الطلب” المشبوهة
عندما تتحول “الاستثناءات” إلى قاعدة مغشوشة
عادت المفتشية العامة للمالية لتطرق أبواب بعض المؤسسات العمومية، وهذه المرة ليس من باب التفتيش الروتيني، بل بسبب شبهات صفقات مشبوهة تم تمريرها عبر ما يُعرف بـ سندات الطلب. ظاهرها قانوني، لكن باطنها يكشف عن مسارات غامضة لا تخلو من التحيّز وربما المحاباة.
المعطيات التي وصلت إلى المفتشية فجّرت موجة أسئلة داخل أروقة المراقبة المالية، خصوصًا بعد أن تبيّن أن بعض الشركات فازت بعقود رغم أن عروضًا أرخص وأكثر تنافسية كانت مطروحة على الطاولة.
سندات الطلب.. بوابة مفتوحة على التجاوزات
سندات الطلب هي وسيلة مرنة تسمح للمؤسسات بإنجاز خدمات أو اقتناء معدات دون المرور بمساطر معقدة، لكنها محددة بسقف مالي. ومع ذلك، ما كشفته تقارير الافتحاص الأخيرة أثبت أن بعض المسؤولين حوّلوها إلى منفذ لتمرير صفقات تفوق الحد المسموح به، فقط عبر تشطير المبالغ وتقسيمها على مراحل متفرقة داخل نفس السنة المالية.
وبدل احترام شروط الإعلان المسبق واستقبال العروض بشفافية، جرى اللجوء إلى منح صفقات مباشرة لشركات بعينها، أحيانًا لأسباب يصعب تفسيرها إلا من زاوية المصالح المشتركة.
غياب اللجان وخرق للمساطر
اللافت في ما كشفه مفتشو المالية هو غياب اللجان القانونية التي يُفترض أن تشرف على عملية الانتقاء والمراقبة. غابت التوصيفات الدقيقة وغابت المعايير التقنية، والأخطر أن بعض الصفقات نُفذت دون التأكد من مطابقة الخدمات لما تم الاتفاق عليه. النتيجة أن مؤسسات عمومية وجدت نفسها تتعامل مع شركات غير مؤهلة، أو على الأقل لم تمر عبر باب التنافس النزيه.
أموال عمومية تُصرف.. لكن الجودة غائبة
في ظرف وجيز، تم تمرير صفقات بمبالغ تتجاوز بكثير السقف المحدد قانونيًا. مبلغ ضخم تجاوز مئة وستين مليون درهم تم إنفاقه خارج إطار الإعلان عن طلبات العروض، ما جعل مؤسسات الدولة تدفع أكثر مقابل خدمات كان يمكن أن تُنجز بأقل كلفة وبجودة أعلى.
الطريقة التي جرى بها تفويت هذه العقود حرمت الخزينة العامة من فرص التوفير، وحرمت السوق من عدالة المنافسة، خاصة المقاولات الصغرى والمتوسطة التي غالبًا ما تُقصى من هذه الدوائر الضيقة.
هل تتحرك الرقابة.. أم سنكتفي بالتقارير؟
السؤال الآن ليس عن ما وقع، بل عن ما سيأتي بعده. هل ستتخذ المفتشية العامة إجراءات ضد المخالفين؟ هل سنرى استرجاعًا للمال العام؟ أم أن الملفات ستركن في رفوف التقارير الموسمية بانتظار فضيحة إعلامية أخرى لتُفتح من جديد؟
المواطن البسيط قد لا يهتم بأسماء الشركات ولا بخوادم الإدارة، لكنه يعرف أن تلك الملايين كانت قادرة على إصلاح مدارس مهترئة أو توفير سيارات إسعاف للقرى البعيدة.